تفاصيل المدونة

التربية ليست مرحلة من مراحل السيرة، وإنما هي مسار يمضي بطول السيرة دون توقف، من دار الأرقم إلى رحلة الطائف، ومن رحلة الإسراء إلى غار ثور، ومن آيات الأنفال في بدر إلى آيات آل عمران في أحد وحتى آيات التوبة في تبوك؛
فتربية المسلمين على معاني الوحي هي أحد وظائف الرسل "يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة"، فالقرآن كله تربية من الله لرسوله وللمؤمنين، والسنة كلها تربية من رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة؛
والتوجيه التربوي لم يتوقف لحظة بطول السيرة حتى في أحلك لحظات الألم في أحد، يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم يتسائل: كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم مثل هذا؟ فيأتيه الجواب التربوي في أرض المعركة: ليس لك من الأمر شيء؛ ولم تكن الممارسة التربوية مقصورة على النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل بين المسلمين وبعضهم بعضا كقصة سلمان مع أبي الدرداء التي ختمها بقوله: " إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقّه"، إن نظرنا في السيرة سيعلمنا أن الممارسة التربوية كانت سمة شائعة في المجتمع ككل، وإن لم تتخذ ذات الأشكال المنهجية التي تتخذها اليوم؛
ويظل السؤال التربوي سؤالاً محورياً لابد أن يشغل القائمين على أي تنظيم أو مؤسسة تؤدي دوراً في سبيل الله، أياً يكن تخصصه، سواء كان يستطيع أن يوفر للعاملين معه الزاد الإيماني والتوجيه التربوي الذي يحتاجون إليه، أو يحيلهم إلى غيره ممن يستطيع رعايتهم في هذا الشق؛ أما تجاهل هذا الأمر والفرح بالإنجازات المادية العاجلة فمآله إلى ذبول الدين في نفوس العاملين، فيؤول أمرهم إما إلى ترك العمل، أو الاستمرار فيه بحثاً عن حظوظ الدنيا فينحرف بطبيعة الحال عن مساره المأمول، والأمثلة موجودة حولنا.

أما عن إدراك طبيعة العلاقة بين التربية بالمنهج الحركي تبدأ من الوعي أنها مسار يوازي الحركة وليست مرحلة من مراحلها، كما أنها ليست بديلاً عنها:

فالظن أنها مجرد مرحلة من مراحل الحركة، يستلزم افتراضاً خاطئا وهو أن الصف المؤمن يمكن أن يبلغ كماله الإيماني في نقطة ما ثم يمضي مستغنياً عن الزاد الإيماني والتوجيه التربوي، قبل أن يبدأ الحركة، وهذا خلاف واقع البشر وحتى واقع الصحابة، وإنما الإنسان يظل يخطيء ويعود ويزيد إيمانه وينقص، يحتاج إلى تذكرة في كل وقت، فليس ثمة درجة مثالية من التربية يصل إليها ثم يمضي ليكتسح العالم وينصر الحق، فلا عجب أن من يحمل هذا الفكر يظل في مرحلة التربية إلى ما لا نهاية.
أما الظن أنها بديل عن الحركة، بمعنى أننا سنظل نربي أنفسنا حتى تنصلح الدنيا بنفسها، فهذا خلاف سنة الله في الكون، وحسبك أنه ليس له شاهد من تاريخ البشر مسلمهم وكافرهم، وأمامك السيرة تنظر فيها إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجمع بين التربية وطلب المنعة والقوة وإخراج الجيوش وإقامة الدولة والتفاوض مع البر والفاجر حتى خضعت له العرب وأوشك العجم على الخضوع.

ملحوظتان:

  • لا يتعارض ما نقوله هنا أن تكون هناك مرحلة "تأسيس تربوي" يمر بها المسلم ويتخفف خلالها من الأعباء الحركية، على أن تكون محددة المعالم ومحدودة الوقت، يتم خلالها وضع الأسس التربوية التي تقوم عليها حياة المسلم في سبيل الله، وينبني عليها مساره التربوي الذي يسير بعد ذلك بالتوازي مع حركته في سبيل الله لسد ثغر من الثغور؛
    بل قد يكون هذا محتماً على الحركات والمؤسسات التي تعاني نقصاً في الأفراد العاملين، فتحتاج إلى تأهيل أجيال جديدة وإعطاء وقت وعناية كافيين للاصطفاء والتأسيس على مباديء التربية الإسلامية.

  • لا يتعارض ما نقوله كذلك مع أن تتخصص مؤسسة ما في التربية الإسلامية فقط، فوجه الخطأ ليس في التخصص في التربية وإنما في دعوة جميع العاملين للدين أن يتركوا الحركة ويتفرغوا للعمل التربوي.

  • مشاركه