تفاصيل المدونة

ما هي إذاً تلك الثمرة التربوية التي نريد البحث عنها؟

هذه الثمرة هي باختصار:
أن تتكامل وتقوى تصورات المتربي عن عالم الغيب، حتى تهيمن على تصوراته عن عالم الشهادة!

يعني أن يعلم عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر،
ثم يتجلى هذا العلم فيما يراه في حياته وبيته ودراسته وعمله والعالم من حوله، من بشر وحضارات وطبيعة؛ وفيما يقابله من أفكار، ويسمعه من كلمات، ويواجهه من تحديات.

ونحن نزيد الأمر بياناً فنقول: 

حين يمر أمامنا إنسان، يعلم المؤمن والكافر أن له قلباً يدق ورئةً تتنفس وأن له والدةً ولدته، ووالداً أسكن نطفته في رحم أمه وهكذا…
أما المؤمن فكما يعلم أن هذا الشخص له قلبٌ يدق، فهو يعلم أن له رباً خلقه، ورزقاً قُسِمَ وهو في بطن أمه، وملكان يكتبان، وحساب قادم، وجنة أو نار؛ يعلم المؤمن هذه كما يعلم تلك، وتكون تلك المعرفة جزءاً لا يتجزأ من رؤيته لهذا الإنسان الذي أمامه…
فلو كان ظالماً، لم يغتر بتقلبه في البلاد، لأن من وراء ذلك يقيناً "متَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ"؛
ولو كان مُحسناً إليه أحبه، لكن لم يتوكل عليه، إذ كيف يتوكل على مملوك مرزوق!

وهكذا تنساب تصورات المؤمن عن عالم الغيب حتى تهيمن وتصحح تصوراته عن عالم الشهادة…
فحين يأتي الكلام عن مفهوم ك"حرية المرأة" مثلاً…
يأتي ذلك في إطار تجلي عالم الغيب في عينيه،
فهو يرى المرأة والرجل مملوكين لخالق واحد أحد، هم عبيده، أنزل إليهم شرعه، وتاركهم في الدنيا سنوات قليلة لا تتجاوز العشرات لينظر كيف تعملون،
ثم يوضعون في قبورهم لآلاف السنين، ثم يبعثون للحساب في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؛ ثم خلود في نعيم يفوق الخيال أو خلود في عذاب يفوق الخيال؛
وكل هذا الطريق مبني على موافقتهم لأمر ((مالكهم)) في كل تفصيلة في حياتهم، في تلك السنوات القلائل التي تفصلهم عن قبورهم؛
وموضوع المناقشة هو "حرية المرأة" خلال تلك السنوات القلائل!
فتأمل حجم التغيير الذي يطرأ على تناول هذا المفهوم حين تضعه في الصورة الكاملة.

وقِس على ذلك مفهوم ك:مشروع العمر، أو حلم حياتي أن أصنع كذا…
فمن يرى حياته هي الحياة الأبدية، وهذه الحياة الأبدية متوقفة على أيامه الباقية في هذه الدنيا، من يرى ذلك ستنزل هذه الألفاظ من نفسه منزلاً آخر.

وهذا هو بيت القصيد الذي يتجلى فيه عمل المربي مع أركان الإيمان.
فلا يتوقف أبداً عمل المربي على مجرد سرد النص من القرآن أو السنة، وبيان الحقيقة الإيمانية التي ينطوي عليها بصيغة مؤثرة، هذه وحده لا يكفي؛
وإنما ينبغي للمربي أن يقتحم حياة المتربين بتلك الحقائق، فيصحح بها تصوراتهم عن الدنيا التي يعيشون فيها، ويكابدون فيها كل يوم؛
ينبغي أن يبصرهم بتجليات تلك الحقائق داخل البيوت، وفي ساحات الدراسة والعمل، وفي ميادين الجهاد والبذل؛
ينبغي أن تضع تلك النصوص كل إنسان، وكل حدث، وكل مفهوم، وكل مخلوق يواجهه المتربي في هذه الدنيا في مكانه الصحيح، فإذا صححت تصوراته عن دنياه، انبنى على ذلك استقامة مشاعره وسلوكه فيها؛
واستقامة المشاعر والسلوك هي موافقتها لمراد الله منه، ولشرع الله له، فتتحقق له بذلك العبودية، التي هي سبب وجوده، وغاية خلقه، ومهمة حياته؛
وضع في ذهنك هذا كله، ثم انظر كيف كان أعلى مقامات هذا الدين هو "أن تعبد الله كأنك تراه."،
أي منتهى العبودية في مواجهة هذه الدنيا تأتي بمن يتعامل مع الغيب "كأنه يراه"،
فتأمل كم المعاني والتطبيقات اللامتناهية التي تتفجر من هذه العبارة، حتى تغمر سائر أفعال العباد، وتقوّمها، وترفعهم بها إلى أعلى درجات الجنة.

  • مشاركه